الأدب في العصر الجاهلي:
من المهم أن نذكر هنا أن العصر الجاهلي كان عصرا ذهبيا للأدب العربي. فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلی أن العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. و ما وصل... عرض المزيدالأدب في العصر الجاهلي:
من المهم أن نذكر هنا أن العصر الجاهلي كان عصرا ذهبيا للأدب العربي. فالوثائق المتوفرة بأيدينا تشير إلی أن العرب الحفاة الجفاة الجاهليين، كانوا يتمتعون بذوق أدبي رفيع. و ما وصلنا من شعر و نثر من تلك الفترة، يشير إلی قدرة أولئك علی التعبير الجميل الدقيق، و يحتل ذروة الفصاحة في الأدب العربي.
و كان للأدب سوق رائجة تدلّ علی اهتمام العرب بلغتهم و آدابهم، و (سوق عكاظ) و أمثالها من الأسواق الأدبية تعكس هذا الاهتمام بوضوح.
و السوق المذكور كان يشهد- إضافة إلی المعاملات الاقتصادية و القضايا الاجتماعية- حركة أدبية تعرض خلالها أفضل مقطوعات الشعر و النثر، و يتم فيها انتخاب أفضل ما قيل من النظم خلال العام، و (المعلقات السبع) أو (العشر) نموذج لذلك، و كانت القصيدة الفائزة تعدّ فخرا كبيرا للشاعر و لقبيلته.
في مثل هذا العصر من الانتعاش الأدبي، يتحدی القرآن النّاس أن يأتوا بمثله، و لكنهم عجزوا (سنذكر مزيدا من إعجاز القرآن في مجال التحدي لدی تفسير الآية ٢٣ من هذه السّورة).
شاهد ناطق:
الشاهد الناطق علی هذا المنحی من تفسير الحروف المقطعة،
حديث عن الإمام علي بن الحسين عليه السّلام حيث يقول: «كذّب قريش و اليهود بالقرآن و قالوا هذا سحر مبين، تقوّله، فقال اللّه: الم، ذلِكَ الْكِتابُ ...: أيّ يا محمّد، هذا الكتاب الّذي أنزلته إليك هو الحروف المقطّعة الّتي منها الف و لام و ميم، و هو بلغتكم و حروف هجائكم فأتوا بمثله إن كنتم صادقين ...»٤.
و ثم شاهد آخر
عن الإمام علي بن موسی الرضا عليه السّلام في قوله: «ثمّ قال إنّ اللّه تبارك و تعالی انزل هذا القرآن بهذه الحروف الّتي يتداولها جميع العرب، ثمّ قال:
قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلی أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ ...٥.
و هناك ملاحظة تؤيد ما ذهبنا إليه في تفسير معنی الحروف المقطعة، و هي أن هذه الحروف في السور الأربع و العشرين التي ذكرناها، يتلوها مباشرة ذكر لعظمة القرآن، و هذا يدل علی الارتباط بين الحروف المقطعة و عظمة القرآن. و علی سبيل المثال نذكر الآيات التالية:
١- الر، كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ٦.
٢- طس، تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ٧.
٣- الم، تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ٨.
٤- المص، كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ٩.
بعد البسملة و ذكر الآية الاولی من سورة البقرة يقول تعالی: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ. قد يشير هذا التعبير إلی أن اللّه تعالی وعد نبيّه أن ينزّل عليه كتابا يهتدي به من طلب الحق، و لا يشك فيه من كان له قلب أو ألقی السمع و هو بصير، و ها هو سبحانه قد وفی بوعده الآن.
و قوله: لا رَيْبَ فِيهِ ليس ادعاء، بل تقرير لحقيقة قرآنية مشهودة، هي إنّ القرآن يشهد بذاته علی حقّانيته. و بعبارة اخری فإن مظاهر الصدق و العظمة و الانسجام و الاستحكام و عمق المعاني و حلاوة الألفاظ و العبارات و فصاحتها من الوضوح بدرجة تبعد عنه كلّ شك.
من المشهود أن مرّ العصور و كرّ الدهور لم يقلل من طراوة القرآن، بل إن حقائق القرآن، ازدادت وضوحا بتطور العلوم و بانكشاف أسرار الكائنات. و كلما ازداد العلم تكاملا ازدادت آيات القرآن جلاء و سطوعا.
و سنوضح هذه الحقيقة أكثر بإذن اللّه في مواضع اخری من هذا التّفسير.
بحوث
١- لماذا الإشارة إلی البعيد؟
نعلم أن كلمة (ذلك) إشارة إلی البعيد في لغة العرب، و قرب القرآن من أيدي النّاس يقتضي أن تكون الإشارة للقريب.
السبب في استعمال اسم الإشارة للبعيد يعود إلی بيان سموّ القرآن و رفعته، حتی كأنه- في عظمته- يحتل نقطة الذروة في هذا الوجود. و مثل هذا الاستعمال شائع في سائر اللغات أيضا حين يراد الإشارة إلی شخص ذي منزلة كبيرة مثلا.
في بعض مواضع القرآن وردت أيضا كلمة (تلك)، و هي اسم إشارة للبعيد أيضا، مثل: تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ١٠. و السبب فيه ما ذكرنا.
٢- معنی الكتاب:
«الكتاب» يعني المكتوب و المخطوط، و لا شك أن المراد منه في الآية كتاب اللّه الكريم.
و هنا يثار سؤال حول سبب استعمال كلمة الكتاب للقرآن و هو آنئذ لم يكتب كلّه.
و في الجواب نقول: استعمال هذه الكلمة لا يستلزم أن يكون القرآن كله مكتوبا. لإن اسم القرآن يطلق علی كل هذا الكتاب، و علی أجزائه أيضا.
أضف إلی ذلك أن «الكتاب» يطلق أحيانا بمعنی أوسع، ليشمل كل ما يليق أن يكتب فيما بعد، و إن لم يكن كذلك حين إطلاق اسم الكتاب عليه. ففي آية اخری نقرأ: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ١١. و من المؤكد أن القرآن لم يكن بشكل كتاب مدوّن بين النّاس قبل نزوله.
و ثمة احتمال آخر و هو إن التعبير بالكتاب يشير إلی كتابة القرآن في «اللوح المحفوظ»١٢.
٣- ما هي الهداية؟
كلمة (الهداية) لها عدة معاني في القرآن الكريم، و كلها تعود أساسا إلی معنيين:
١- الهداية التكوينية: و هي قيادة رب العالمين لموجودات الكون، و تتجلی هذه الهداية في نظام الخليقة و القوانين الطبيعية المتحكمة في الوجود. و واضح أن هذه الهداية تشمل كل موجودات الكون.
يقول القرآن علی لسان موسی عليه السّلام: رَبُّنَا الَّذِي أَعْطی كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدی١٣.
٢- الهداية التشريعية: و هي التي تتم عن طريق الأنبياء و الكتب السماوية، و عن طريقها يرتفع الإنسان في مدارج الكمال، و شواهدها في القرآن كثيرة منها قوله تعالی: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا١٤.
٤- لماذا اختصت هداية القرآن بالمتقين؟
واضح أن القرآن هداية للبشرية جمعاء، فلما ذا خصت الآية الكريمة المتقين بهذه الهداية؟
السبب هو أن الإنسان لا يتقبل هداية الكتب السماوية و دعوة الأنبياء، ما لم يصل إلی مرحلة معينة من التقوی (مرحلة التسليم أمام الحق و قبول ما ينطبق مع العقل و الفطرة).
و بعبارة اخری: الأفراد الفاقدون للإيمان علی قسمين:
قسم يبحث عن الحق، و يحمل مقدارا من التقوی يدفعه لأن يقبل الحق أنّی وجده.
و قسم لجوج متعصب قد استفحلت فيه الأهواء، لا يبحث عن الحق، بل يسعی في إطفاء نوره حيثما وجده.
و من المسلّم به أن أفراد القسم الأول هم الذين يستفيدون من القرآن أو أيّ كتاب سماوي آخر، أما القسم الثاني فلا حظّ لهم في ذلك.
و بعبارة ثالثة: كما إنّ «فاعليّة الفاعل» شرط في الهداية التكوينية و في الهداية التشريعية، كذلك «قابلية القابل» شرط فيهما أيضا.
الأرض السبخة لا تثمر و إن هطل عليها المطر آلاف المرات، فقابلية الأرض شرط في استثمار ماء المطر.
و ساحة الوجود الإنساني لا تتقبّل بذر الهداية ما لم يتمّ تطهيرها من اللجاج و التعصب و العناد. و لذلك قال سبحانه في كتابه العزيز أنه: هُدیً لِلْمُتَّقِينَ.
📚المصدر:تفسير الأمثل
لسماحة آية الله مكارم الشيرازي