وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّـهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ... عرض المزيدوَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (٨) يُخادِعُونَ اللَّـهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (٩) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (١٠) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (١١) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (١٢) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (١٣) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلی شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (١٤) اللَّـهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١٥) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدی فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (١٦)
التّفسير
المجموعة الثّالثة: المنافقون
هذه الآيات تبين- باختصار و عمق- الخصائص الروحية للمنافقين و أعمالهم.
الإسلام واجه في عصر انبثاق الرسالة مجموعة لم تكن تملك الإخلاص اللازم للإيمان، و لا القدرة اللازمة للمعارضة.
هذه المجموعة المذبذبة المصابة بازدواج الشخصية توغلت في أعماق المسلمين، و شكّلت خطرا كبيرا علی الإسلام و المسلمين. كان تشخيصهم صعبا لأنهم متظاهرون بالإسلام، غير أن القرآن بيّن بدقة مواصفاتهم و أعطی للمسلمين في كل القرون و الأعصار معايير حيّة لمعرفتهم.
الآيات المذكورة قبلها بيّنت في مطلعها الخط العام للنفاق و المنافقين: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّـهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ.
هؤلاء يعتبرون عملهم المذبذب هذا نوعا من الشطارة و الدهاء يُخادِعُونَ اللَّـهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بينما لا يشعر هؤلاء أنهم يسيئون بعملهم هذا إلی أنفسهم، و يبدّدون بانحرافهم هذا طاقاتهم، و لا يجنون من ذلك إلّا الخسران و العذاب الإلهي. وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ.
في الآية التالية يبيّن القرآن أن النفاق في حقيقته نوع من المرض. الإنسان السالم له وجه واحد فقط، و في ذاته انسجام تام بين الروح و الجسد، لأن الظاهر و الباطن، و الروح و الجسم، يكمل أحد هما الآخر. إذا كان الفرد مؤمنا فالإيمان يتجلی في كل وجوده، و إذا كان منحرفا فظاهره و باطنه يدلان علی انحرافه.
و ازدواجية الجسم و الروح مرض آخر و علّة إضافية. إنه نوع من التضاد و الانفصال في الشخصية الإنسانية: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ.
و بما أنّ سنّة اللّه في الكون اقتضت أن يتيسّر الطريق لكل سالك، و أن تتوفر سبل التقدّم لكل من يجهد في وضع قدمه علی طريق. و بعبارة اخری: إن تكريس أعمال الإنسان و أفكاره في خط معين، تدفعه نحو الانغماس و الثبات في ذلك الخط فقد أضاف القرآن قوله: فَزادَهُمُ اللَّـهُ مَرَضاً. و بما أن الكذب رأس مال المنافقين، يبرّرون به ما في حياته من متناقضات، و لهذا أشار القرآن في ختام الآية إلی هذه الحقيقة: وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ.
ثم تستعرض الآيات خصائص المنافقين، و تذكر أوّلا أنهم يتشدّقون بالإصلاح، بينما هم يتحركون علی خط التخريب و الفساد: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، قالُوا: إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ. أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ.
ذكرنا سابقا أنّ الإنسان، لو تمادی في الغيّ و الضلال، يفقد قدرة التشخيص، بل تنقلب لديه الموازين، و يصبح الذنب و الإثم جزء من طبيعته. و المنافقون أيضا بإصرارهم علی انحرافهم يتطبّعون بخط النفاق، و تتراءی لهم أعمالهم بالتدريج و كأنهم أعمال إصلاحية، و تغدو بصورة طبيعة ثانية لهم.
علامتهم الاخری: اعتدادهم بأنفسهم و اعتقادهم أنهم ذووا عقل و تدبير، و أن المؤمنين سفهاء و بسطاء: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ، قالُوا: أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ؟!!.
و هكذا تنقلب المعايير لدی هؤلاء المنحرفين، فيرون الانصياع للحق و إتباع الدعوة الإلهية سفاهة، بينما يرون شيطنتهم و تذبذبهم تعقّلا و دراية!! غير أن الحقيقة عكس ما يرون: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ.
أليس من السفاهة أن لا يضع الإنسان لحياته خطا معينا، و يبقی يتلوّن بألوان مختلفة؟ أليس من السفاهة أن يضيّع الإنسان وحدة شخصيته، و يتجه نحو ازدواجية الشخصية و تعدّد الشخصيات في ذاته، و يهدر بذلك طاقاته علی طريق التذبذب و التآمر و التخريب، و هو مع ذلك يعتقد برجاحة عقله؟! العلامة الثالثة لهؤلاء، هي تلوّنهم بألوان معينة تبعا لما تفرضه عليهم مصالحهم، فهم انتهازيون يظهرون الولاء للمؤمنين و لأعدائ