مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أ... عرض المزيدمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (١٧) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (١٨) أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّـهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (١٩) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّـهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلی كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٠)
التّفسير
مثالان رائعان لوصف حالة المنافقين:
بعد أن بين القرآن صفات المنافقين و خصائصهم، يقدّم مثالين متحركين لتجسيم وضعهم:
١- مَثَلُهُمْ المنافقين كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً في ليلة مظلمة، كي يهتدي بها إلی طريق و يبلغ مقصده. فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّـهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ.
لقد ظنّ هؤلاء أنهم قادرون علی أن يحققوا أهدافهم بما لديهم من إمكانات إنارة محدودة.
و لكن نارهم سرعان ما انطفأت بسبب عوامل جوّيّة، أو بسبب نفاد الوقود، و ظلّوا حائرين لا يهتدون سبيلا.
ثم تضيف الآية الكريمة أن هؤلاء فقدوا كل وسيلة لدرك الحقائق: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ.
و المثال المذكور يصوّر بدقّة عمل المنافقين علی ساحة الحياة الإنسانية.
فهذه الحياة مملوءة بطرق الانحراف و الضلال، و ليس فيها سوی طريق مستقيم واحد للهداية، و هذا الطريق مليء بالمزالق و الأعاصير. و لا يستطيع الفرد أن يهتدي من بين الطرق الملتوية إلی الصراط المستقيم، كما لا يستطيع أن يتجنب المزالق و يقاوم أمام الأعاصير، إلّا بنور العقل و الإيمان، و بمصباح الوحي الوهّاج.
و هل تستطيع الشعلة المحدودة المؤقتة التي يضيئها الإنسان، أن تهدي الكائن البشري في هذا الطريق الشائك الطويل؟! هؤلاء الذين سلكوا طريق النفاق، ظنوا أنّهم قادرون بذلك أن يحافظوا علی مكانتهم و مصالحهم لدی المؤمنين و الكافرين. و أن ينضمّوا إلی الفئة الغالبة بعد نهاية المعركة. كانوا يخالون أن عملهم هذا ذكاء و حنكة. و أرادوا أن يستفيدوا من هذا الذكاء و هذه الحنكة، كضوء يشقّ لهم طريق الحياة و يوصلهم إلی مآربهم. لكن اللّه سبحانه ذهب بنورهم و فضحهم، إذ قال لرسوله: إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا: نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّـهِ، وَ اللَّـهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ، وَ اللَّـهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ. و القرآن الكريم يفضح المنافقين لدی الكافرين أيضا، و يبيّن كذبهم و نكولهم إذ يقول: أَ لَمْ تَرَ إِلَی الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً، وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّـهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ. لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ، وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ١.
جدير بالذكر أن القرآن استعمل عبارة اسْتَوْقَدَ ناراً أي إنهم استفادوا للإنارة من «النار» ذات الدخان و الرّماد و الحريق، بينما يستنير المؤمنون بنور الإيمان الخالص و بضوئه الساطع.
باطن المنافقين ينطوي علی النار، و إن تظاهروا بنور الإيمان، و إذا كان ثمة نور فهو ضعيف في قوته و قصير في مدته.
هذا النور الضعيف المؤقّت، إمّا أن يكون إشارة إلی الضمير و الفطرة التوحيدية، أو إشارة إلی الإيمان الأوّلي لهؤلاء المنافقين حيث أسدلت عليه ستائر مظلمة علی أثر التقليد الأعمی و التعصب المقيت و اللجاج و العداء، فتحولت ساحة حياتهم لا إلی ظلمة، بل إلی «ظلمات» في التعبير القرآني.
و هؤلاء سيفقدون في النهاية قدرة الرؤية الصحيحة، و الاستماع الصحيح، و النطق الصحيح، و هذه نتيجة طبيعية- كما ذكرنا سابقا- للاستمرار علی الانحراف و الإصرار علی الغيّ، حيث يؤدي إلی إضعاف آليات الإدراك لدی الإنسان فيری الحقائق مقلوبة، فالخير في نظره شرّ، و الملك شيطان، و هكذا.
علی أي حال هذا التشبيه يوضّح واحدة من حقائق النفاق، و هي إن عمر النفاق و التذبذب لا يدوم طويلا، قد يستطيع المنافقون لمدة قصيرة أن يتمتعوا بمصونية الإسلام و الإيمان، و بصداقة الكفار سرا. لكن هذه الحالة مثل شعلة ضعيفة معرضة لألوان العواصف، سرعان ما تنطفئ، و يظهر الوجه الحقيقي للمنافقين، و يظلون منفورين مطرودين حائرين، مثل إنسان يتخبّط في ظلام دامس.
لا بدّ من الإشارة إلی ما ورد في تفسير الآية الكريمة: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً٢.