yakdhom
بواسطة في ايار 14, 2020
217 المشاهدات

التفكر

تأليف الشهّيد دستغيب

مكتبة الفقيه

 

مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

الفكر معيار قيمة الإنسان

تقاس قيمة الإنسان بما يحمله من أفكار في الأمور المعنوية؛ فهو بواسطة هذا الفكر يتجاوز حدود الحيوانية والصغائر، ليرقى إلى الدرجات الإنسانية العليا؛ والترقّي المعنوي لابن آدم إنّما يتحقّق بفضل تفكيره في الأمور الباقية. يقول الشاعر:

يبقى.. فلست سوى عظام وعروق

 

معيار شخصك بالتفكّر في الذي

ولدينا آيات متعددة في القرآن المجيد، يعبر فيها سبحانه وتعالى أنّ مخلوقاته كافّة إنّما هي أدلّة وآيات حقّ، لمن يتفكّر فيها ويتدبّرها. يقول سبحانه:

(إنّ في ذلك لآيةً لقوم يتفكّرون)[1].

كما يمتدح عزّ وجل أولئك الذين يذكرون الله (.. ويتفكّرون في خلق السموات والأرض)[2].

بل هو يذمّ أولئك الذين يعرضون عن التفكّر والتدبّر بقوله:

(أفلا يتدبّرون القرآن، أم على قلوب أقفالها)؟![3].

التفكّر في المجرّدات مفيد

ما أكثر ما يختلط الأمر على البعض بين موضوع التفكّر، ونسج الخيال؛ فالفكر هو البحث عن العلم واليقين، وعلى أساس (مبادئ معلومة)، للوصول إلى المراد المجهول؛ فما لم ينطلق الفكر من مبدأ صحيح واضح فسيخفف في الوصول إلى النتيجة المتوخّاه، كما سيجر صاحبه ـ إلى حدّ ما ـ للوقوع في نسج الخيال.

ومن التفكّر الذي يبعث على سمّو الإنسان، التفكّر في المجرّدات؛ وإلاّ، فأين ما هو خير من عبادة ستين سنة[4]، وأين ما يدعى بمخّ العبادة[5]؟.

والتفكّر هو المسير من الباطل نحو الحق؛ هو التخلّص من الباطل، والوصول إلى الحقّ نتيجة لهذا التفكّر؛ في حين أنّ الخيال يبلغ بصاحبه إلى ظلمات الجهل والأوهام الباطلة، ويقعد به عن الوصول إلى أي نتيجة.

أوّل التفكّر: التنّبه إلى جهل النفس

أوّل التفكّر والسير في الطريق الصحيح إنّما ينطلق ـ ومنذ البداية ـ بالخروج من الجهل المركّب للنفس؛ أي: اعتراف الإنسان وإحساسه بجهله لأمور كثيرة، وأنّ عليه التصدي لها للخروج من هذا الجهل؛ فيبعث هذا الإحساس لديه تحرّكا يدفعه للتفكّر، وبعد التأمل في النتائج تظهر له موجباتها، ويتضح الطريق أمامه.

وبديهيّ أنّ أدلَّة وبراهين (الميزان) وعلم المنطق والقواعد التي تتصل بهذا الموضوع، هي عوامل مساعدة على الارتقاء بالفكر وتصحيحه، غير أن ما هو أكثر منها أهميّة وبعثاً على الرضا، إنّما هو رعاية الله عزّ وجلّ وعنايته، فالطريق ـ في الحقيقة ـ هو الطريق الذي يرسمه الله جلّ وعلا.

الشهيد السعيد والدم الطافح بالبركة

الشهيد السعيد، السيد عبد الحسين دستغيب، والذي كان بحقّ يداً من الغيب، والذي وُفّق إلى الإحاطة بأبعاد الدين الإسلامي كافّة، ونواحيه المتعدّدة، ترك لنا ـ رحمةُ الله ـ آثاراً منه قيّمة، توجّه المجتمع إلى الله عزّ وجلّ، والتعرّف عليه، وإدراك صفاته.

وفي الذكرى الثانية لاستشهاد هذا الرجل الكبير، وضع هذا الأثر النفيس في الطبع، ليكون بركة أخرى من بركات دمه الزكيّ، الذي سال في سبيل هذا المجتمع، المتعطّش إلى المعرفة:

تغمّد الله روحه برحمته وبركاته، وأعلى في الخلد مقامه.

السيد محمد هاشم دستغيب

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

التحلّي بالتفكُّر والذكر

بعد إزالة عوائق المعرفة الإلهية يجب المداومة على أمرين: التفكُّر والذكر. يقول تعالى في سورة آل عمران: (إنّ في خلق السموات) والكواكب التي تظلِّلنا مع كل تلك الأسرار والعجائب والأرض التي نحيا عليها مع كل هذه المخلوقات العجائب  (واختلاف الليل والنهار) بنظام لا تخلف فيه (لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم) وأثناء الراحة. أي أنهم يذكرون الله في كل الحالات (ويتفكرون في خلق السموات والأرض) ويدركون بواسطة التفكر أن عالم الخلق العظيم، لم يخلق عبثاً بل خلق لغرض مهم ذلك هو بلوغ الأشياء مقام المعرفة والعبودية، والوصول في النهاية إلى السعادة الأبديّة فيقولون: (ربّنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك) أنت منزَّه عن فعل ما كان بلا جدوى (فقِنَا عذاب النار) واهدنا سبيل المعرفة والعبودية وثبّتنا.

التفكُّر في خلق السموات والأرض:

(أولم يتفكّروا في أنفسهم ما خلق الله) عالم الخلق الواسع هذا (السموات والأرض وما بينهما إلاّ بالحق) لنتيجة ثابتة لا تزول (لأجل) هو في علم الله (مسمى) وإذا ما حلّ أجل العالم، انعدم وفني، وعاقبة الأمر إنّ عالم الآخرة هو الذي لا يفنى (إنّ كثيراً من الناس بلقاء ربهم) في عالم الآخرة وبلوغ الجزاء على الأعمال (لكافرون).

التقدُّم الدنيوي والتقهقر المعنوي:

قارئي العزيز تأمَّل جيِّداً في هذه الآية الشريفة. هؤلاء عالمون بأعمالهم في الدنيا ومطلعون عليها، يعلمون ظاهر الحياة الدنيا، ويجهلون باطنها وعاقبتها ونتيجة الآخرة[6]. أو ليس أكثر الناس اليوم هم على هذه الشاكلة، علومهم تعود جميعها إلى عالم الدنيا والحياة المادية، ويوجد القليل من الأمور التي لم يحققوا فيها تقدماً مدهشاً؟

مثلاً في علم الزراعة، التشجير، علم النبات، لقد وصلوا بحق إلى حدِّ الكمال، في علم الطبِّ والجراحة وسُبُل تشخيص مرض ودواء الجسم البشري، وتقدموا تقدماً مدهشاً إلى حدّ أنهم يجرون جراحة للقلب أو إنهم يستبدلونه، وفي الصناعة والاختراعات وتأمين وسائل الحياة في هذا العالم اكتشفوا أموراً لم تكن من قبل لتخطر على بالهم، فكيف بهم يصدقون بها، إلى حدِّ أنهم تجاوزوا الأرض، وسخّروا الفضاء، وذهبوا مسافة ثلاثمئة واثنين وعشرِين ألف كيلومتر بعيداً عن كوكب القمر، ولكن للأَسف، فمع كل هذه العلوم التي اكتسبوها عن ظاهر هذا العالم، ما زالوا يجهلون باطنه ومحدثه، لا يصدِّقون بفناء وزوال هذا العالم، مع أنّ باحثي هذا العصر اكتشفوا وقالوا بأن للأرض أجلاً وعمراً إذا ما انتهت إليه بادت وتلاشت. وقالوا: إنّ منظومتنا الشمسية هي في سنيّ الشيخوخة، إنّ فناء كلّ فرد هو من أظهر الأمور حيث لا يخلد هنا أحد ولكن هذا الأمر لا يؤثّر بتاتاً في قلوبهم فيفكروا بالحياة بعد الموت.

إذاً هناك عالمٌ آخر يأتي في ما بعد:

إنهم لا يفكرون في أنّ خلق هذا العالم الذي تملأ أرجاءه الحكمة هو من أجل غرض مهم ونتيجة ثابتة هي أنّ هذا العالم الفاني يعقبه عالم خالد يدخله الناس المخلصون الذين تخلّصوا من الحياة المذهلة في هذا العالم ويحصلون على كامل السعادة أي أنّ يبلغوا راحة لا يعقبها كدر، ولذّة لا تعقبها خيبة، وسروراً لا يعقبه غمّ.

عالم الخلق من أجل معرفة الحق:

الخلاصة إنّ على الإنسان أنّ ينظر ويتفكَّر[7] في نظام خلق السماوات وما فيها والأرض وما عليها، حتى يعلم أنّ خلق كلِّ جزء صغير مما خلق له غرض وحكمة، إذاً فكل عالم الخلق هو من أجل غرض مهم، وللعثور على ذلك الغرض المهم يجب أنْ نفهم ونراجع كلمات الله ورسول الله(ص) وأهل بيته(ع): إنّ عالم الخلق خلق من أجل الإنسان وأن الإنسان أيضاً خلق من أجل معرفة الله والعبودية له، والمعرفة والعبودية هما بمثابة جناحين للإرتقاء إلى المنزلة الرفيعة والوصول إلى الحياة الإنسانية الطاهرة التي فيها من اللذائذ والمباهج ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب[8]. فلا يعلم أحدٌ من الصالحين ما أُعد له من أنعم توجب له ضياء العين، جزاء ما عمل[9].

وبعبارة أخرى فإن هدف الله من إيجاد الإنسان وخلق العالم الفاني الخالد هو:

أولاً: وبالذات إظهار الصفات الجمالية (أي قدرة الله اللامتناهية وفضله وجوده وكرمه) حيث سيظهر كمالها في ما يتعلَّق بالمحسنين والمؤمنين من الناس في عالم الآخرة، وما كان منها في الدنيا هو فقط كنموذج عنها.

ثانياً: إن ظهور صفات الحق الجلالية معناه ـ فرضياً ـ عدل الله الحقيقي وغلبته القاهرة التي تبدو في ما يتعلق بالأشرار والكفّار من أفراد البشر (سوف نذكر إيضاحاً أكثر لهذا الموضوع في مكان مناسب). إنّ الآيات القرآنية التي تأمر بالتفكُّر والتعقُّل والنظر والتدبّر كثيرة جداً نكتفي منها بما ذكرناه.

التفكُّر في الخلق من أفضل العبادات:

يقول أمير المؤمنين(ع) (نبه قلبك بالتفكُّر) ويقول الإمام الصادق(ع): (أفضل العبادة إدمان الفكر في الله وفي قدرته)[10] والإمام الرضا(ع) يقول: (ليست العبادة بكثرة الصلوات والصوم، إنما العبادة التفكُّر في أمر الله).

وروي عن الإمام الصادق(ع) أنه: (كان أكثر عبادة أبي ذر رحمه الله التفكّر والإعتبار)[11]. وكان عليه السلام يقول: (تفكّر ساعة خير من عبادة سنة، إنما يتذكّر أولو الألباب)[12]. ربما يكون هذا الحديث إشارة إلى أنه من الممكن في بعض الأحيان أنّ لا تبلغ قيمة المعرفة التي يكتسبها الإنسان من عبادة سنة دون تفكُّر، تلك التي يكتسبها من تفكّر ساعة في صنع الله. يقول أمير المؤمنين(ع): ((ولو فكّروا في عظيم القدرة وجسيم النعمة لرجعوا إلى الطريق ـ معرفة الله ـ وخافوا عذاب الحريق)[13]. أي إنّهم لأدركوا أنّ ما بعد هذا العالم عالم جزاءٍ وثوابٍ وعقاب ولخافوا من ذلك.

الجذور المتنوَّعة للتفكُّر:

ويقول الإمام أمير المؤمنين(ع) أيضاً: (التفكُّر يدعو إلى البِّر والعمل به)[14] يقول المجلسي(ره) في شرح هذا الحديث: التفكّر المذكور في هذا الحديث المأثور يشتمل على جميع أنواع التفكّر الصحيح.

التفكُّر في عظمة الله الذي يحمل الإنسان على خوف الله وطاعته، والتفكُّر في زوال الدنيا ولذّاتها الذي يحمل الإنسان على تركها وتجنبها،

والتفكُّر في عاقبة الناس الطيبين الذين كانوا فيما مضى حيث يحمل ذلك الإنسان على إتِّباع آثارهم والإقتداء بأعمالهم،

والتفكُّر في عاقبة المذنبين والمسيئين حيث يوجب ذلك الورع عما كانوا يفعلون،

وكذلك التفكّر في عيوب النفس وآفاتها الذي يوجب الإهتمام بإصلاحها،

والتفكّر في أسرار العبادات وأهدافها مما يتسبَّب في الإتيان بها على وجه أفضل،

والتفكّر في الدرجات الأخروية الرفيعة الذي يحمل الإنسان على تحصيلها،

والتفكُّر في الأحكام والمسائل الشرعية الذي يدعو الإنسان إلى العمل بها،

والتفكّر في الأخلاق المرضية الذي يدعو الإنسان إلى تحصيلها التجمُّل بها.

السابقون... أين هم؟

يقول حسن الصيقل: سألت أبا عبد الله(ع) عمّا يرى الناس أنّ تفكّر ساعة خير من قيام ليلة قلت كيف يتفكّر؟ قال(ع) يمر بالخربة أو بالدار فيقول: أين ساكنوك؟ أين بانوك؟ مالك لا تكلمين؟ (ليس فيك من متكلم فالكل قد رحلوا)[15]. يفهم مما مضى تفوُّق الفكر ومراتبه وأنواعه. ولأن التفكّر هو الوسيلة الوحيدة لمعرفة الله، فإننا نذكّر هنا وبشكل مختصر بطريقته.

طريقة التفكّر ومعرفة الله:

على الإنسان أنّ يلفت إلى أنّ كلّ موجود يراه، حقيراً كان أم عظيماً، عليه أنّ يلتفت إلى كينونته آية بحد ذاته[16]، وذلك بأن يفكّر أنّ لكل حادث محدثاً، وأنّ كل متحرك يحتاج إلى محرّك. ولأنه يشاهد أنّ لكل موجود حكمة وهدفاً ومنافع من وجوده، يدرك حينئذٍ أنّ مالك العالم هو صاحب إرادة وعلم وقدرة لا متناهية، وهو سيدرك هذا إذا ما تفكّر خاصة في تلك الموجودات صاحبة الإرادة والعلم والقدرة كالحيوانات أو ما كان منها أرفع شأناً كالإنسان.

الإنسان الذي هو ذو إرادة وشعور، والذي هو واحدٌ من حوادث عالم الخلق، هل يعقل أنْ يكون محدث هذا الإنسان فاقداً للإرادة والشعور؟ بينما هذه الإرادة وهذا الشعور هما أيضاً حادثان أحدثهما خالق، عالم الوجود.

نظرة إلى أجزاء الساعة

مثلاً الساعة التي تشتمل على حلقات وبراغٍ وعزقات كثيرة، وعلى عقارب وصفحة مرقّمة بحيث إنّ في كلّ جزءٍ منها صغيراً كان أم كبيراً خاصية معينة تتوقف الساعة عن العمل بدونها، ويضطرب بذلك سير العمل في هذا الجهاز، هل يمكن لعاقل أنّ يقول إنّ الساعة قد وجدت بنفسها، وأن دوائرها وسائر أجزائها، قد تجمعت فوق بعضها البعض دون تنظيم؟ إن أمراً كهذا لا يمكن حدوثه أبداً بل إنّ كل عاقل إذا ما رأى جهاز الساعة هذه وخصائص أجزائها، يحصل لديه اليقين بأنّ صانعها شخص حيٌّ ذو إرادة وشعور وقدرة وهو لن يتردد في هذا الحكم أبداً.

هل أجهزة الجسم هي أقل شأناً من الساعة؟

إنّ جسم الإنسان بكل تلك الأجهزة المحيّرة التي ينطوي عليها، كجهاز التغذية، والهضم، والتنمية، والتوليد وتصفية الدمّ (القلب) والكبد والكلية والبصر، والسّمع، والأعجب من كل هذا جهاز المخ ومركز الإدراكات و... هل هذه الأجهزة كلها هي أقل شأناً من جهاز ساعة؟ أولاً يجب على الإنسان العاقل أنّ يتيّقن إذا ما رأى ذلك أنّ صانع هذا الجسم ذو إرادة وشعور وقدرة لا متناهية، بينما نفس تلك الساعة وغيرها من المصنوعات البشرية الأخرى، هي أيضاً مخلوقة لرب العالمين... (والله خلقكم وما تعملون)[17]. ذلك أنّ كل ما تصنعه يد الإنسان وأجزاؤه الأساسية هي ذاتها مخلوقة من قبل الله، من إرادة وإدراك وشعور وقدرة، فصانعها كلُّه مخلوقٌ من قبله تعالى.

النّظر على سبيل العادة لا العبرة!!

نعم الواقع إنّ الإنسان منذ أن تلده أمه ويصبح مبصراً، ينظر حوله فيرى موجودات هذا العالم، ولكنه لا يملك في تلك السّن المبكرة، قوة التمييز والتعقل بحيث يتعرف إلى صانعها، ثم إذا ما بلغ بعد ذلك سنّ الرُّشد تكون الموجودات قد فقدت بالنسبة له أية دلالة على علم وقدرة الله اللامتناهيين، ذلك أنه تكون قد مضت عليه سنون متطاوله كان ينظر فيها كل يوم إلى الموجودات من حوله دون أن يأخذ منها العبرة.

الدليل على ذلك أنه إذا رأى موجوداً جديداً لم يكن قد رآه من قبل يصيح على الفور: الله أكبر، ما أعجب ما خلق!! بينما خلقة نفسه أكثر عجباً مما رأى.

على كلّ حال، إن المطلوب من الإنسان إذا ما بلغ سنّ الرشد، أنّ يتنبّه إلى كينونة أنّ كل موجودٍ يراه هو آية، وأن يعتبره دليلاً على قدرة وعلم الله.

(وكأيّن من آية) قدرة وحكمة وتوحيد الله (في السموات والأرض يمرّون عليها وهم عنها معرضون)[18] ويصرفون عنها أنظارهم حتى لا يتعرّفوا بواسطتها إلى الله. يجب التحقيق بدقة في كتاب الخلق حتى تُعلم عظمة ووحدانية خالقه.

العالم كلُّه كتاب الحق تعالى

 

عند من كانت روحه في تجلٍ

التفكّر في مبدأ خلق الجسم:

كانت قطرة ماءٍ نتنة، تصرفت فيها يد القدرة فخلقت منها أذنا وعيناً[19] ورأساً ويداً ورجلاً ولساناً، وعروقاً وأعصاباً وعظاماً، لحماً وجلداً وغير ذلك. إن على الإنسان أنّ يدقق في حاله الحاضرة. إنه عاجز حتى عن خلق شعرة. الآن هو قادر لكنه في تلك الأثناء عندما كان نطفة كان أعجز مما هو عليه الآن. إذاً هذه الأعاجيب غيره أحدثها فيه وهو الله تبارك وتعالى، فليدرك حينئذٍ حكمة الله من كيفية خلق أعضائه.

فليستدل إلى إحاطة الله بإحاطة النفس

كذلك فليستدل من إحاطة الروح بالبدن، وإطّلاعها على جميع الحالات التي تعرض عليه، على إحاطة الله علماً بكل العوالم، وليستيقن أنّ الله يعلم علماً كاملاً بالحوادث كلها. وكما أنّ الروح لا يمكن إدراكها بواسطة الحواس الظاهرة لأنها ليست مجسّمة إلاّ أنه بالإمكان الإحساس بآثارها في البدن، وآثارها الوجودية تعرف من انعدامها، أي أنه بمجرد إنفصالها عن البدن تزول خصائصه ويتحول بعد مُضي أيام معدودات إلى جيفة نتنة.

كذلك الأمر بالنسبة إلى الله تعالى، فلا يمكن إدراكه بواسطة الحواس الظاهرة، إنما يمكن رؤية وإحساس آثار قدرته وعجائب حكمته متجلية في جسم عالم الوجود.


[1] سورة النحل: الآية 11.

[2] سورة آل عمران: الآية 191.

[3] سورة محمد: الآية 24.

[4] إشارة إلى الحديث الشريف: (تفكّر ساعة خير من عبادة ستّين سنة [سبعين سنة] ).

[5] إشارة إلى الحديث الشريف: (مخ العبادة التفكّر).

[6] {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون}. (الروم/7).

[7] {قل أنظروا ماذا في السموات والأرض} (سورة يونس، الآية 101).

[8] {فلا تعلم نفس ما أُخفي لهم من قرّة أعين جزاء بما كانوا يعلمون} (السجدة/17).

[9] الشيخ البهائي(عليه الرحمة) يوضح بشكل جيّد دور الإنسان في عالم الوجود والمنزلة التي عليه أنّ يبلغها، فيقول شعراً ما مضمونه: أيها الإنسان يا مركز دائرة الإمكان، يا زبدة عالم الكون والمكان، أنت سيد الجواهر الناسوتية، أنت شمس المظاهر اللاهوتية. إلى متى تبقى قيود الجسم تقيدك؟ إلى متى تبقى مشغولاً بجسدك وفتح باب الجنة يحتاج منك إلى كلمة؟ إن مئات الملائكة تعمل على هدايتك فاخرج من الهاوية التي أنت فيها لتصبح سيّد عالم الوجود وسلطاناً يجلس على سرير مُلك عالم الشهادة. تجاوز المعارف العقلية ولا تغتر بزخارف عالم الحس، وأنكر ناراً تنتظرك في عالم الآخرة إذا ما أنت استمررت تلهو وتلعب. فعد لنفسك ولو للحظة وانظر بماذا تعلَّق قلبك.

[10] أصول الكافي/ باب التفكّر..

[11] بحار الأنوار، المجلد رقم15، ص195.

[12] بحار الأنوار، ج15، ص195.

[13] نهج البلاغة.

[14] الكافي.

[15] الكافي.

[16] وعن أشهر فلاسفة وكتّاب فرنسا (1994م ـ 1778م) الذي يعد من أعظم العقول البشرية كتب في كتابه (القاموس الفلسفي) يقول: إن السبل الطبيعية للوصول إلى معرفة الله وأكثر الطرق ملاءمة لتنمية الإدراكات والمشاعر العامة هي أنّ لا نحصر غاية دراستنا وتدقيقنا في نظام الخلق فقط بل علينا أنّ نتوجه بأنفسنا وآذهاننا إلى الغايات والحكم التي من أجلها خلق كل موجود من الموجودات.

ويكتب أيضاً: إني عندما أنظُر إلى الساعة تشير عقاربها إلى الأوقات المختلفة أصل حتماً إلى هذه النتيجة وهي أنه لا بد أنّ العقل هو الذي نظم عمل دوائر هذا الجهاز حيث على إثر هذا النظم والترتيب تعلم العقارب أنّ تحدّد الوقت والساعة وكذلك الأمر إذا ما دققت في أعضاء البدن أستنتج أنه لا بد أنّ هناك عقلاً نظّم هذه الأعضاء والأجزاء والأجهزة وجعلها جاهزة للحياة. (ثقافة القرآن، ص356).

[17] سورة الصافات: الآية 96.

[18] سورة يوسف: الآية 105.

[19] (إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً) (الدهر/2).

كن الشخص الأول المعجب بهذا.