المدونات
الشيخ حسن أحمد الهادي
الصدقة في اللغة والعرف والشرع عطيّةٌ يخرجها الإنسان من ماله على نحو التبرّع، بقصد مساعدة الآخرين وسدّ بعض حاجاتهم، تقرّباً إلى الله تعالى. وقد حرص نبي الإسلام محمد صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام على بيان قيمتها وفوائدها الدنيوية وآثارها الأخروية على الفرد والمجتمع، فروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "الصدقة جنّة من النار" (1).
ويذكر لنا التاريخ الحِرصَ الشخصي للنبي صلى الله عليه وآله وآله الأطهار عليهم السلام على أداء الصدقات للفقراء والأيتام في مختلف المناسبات، ولهذا كانت الصدقة من السنن القولية والعملية التي سنّها رسول الله صلى الله عليه وآله إلى ما يقرب من حدّ الإسراف، كما روي عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام في وصيّة رسول الله صلى الله عليه وآله لعلي عليه السلام ـ: "أَمَّا الصَّدَقَةَ فَجُهدُكَ حَتَّى تَقُولَ قَدْ أَسْرَفْتُ وَلَمْ تُسْرِف" (2).
* فلسفة الصدقة
للصدقة بنوعيها الواجب والمستحب فلسفةٌ أخلاقيةٌ واجتماعيةٌ خاصة، فهي تطهّر من الرذائل الأخلاقية، ومن حبّ الدنيا وعبادتها، ومن البخل وغيره من مساوئ الأخلاق، وتزرع مكانها خِلال الحب والسخاء ورعاية حقوق الآخرين في النفوس، وهذا ما يساهم في تقدّم المجتمع وتكامله، وفي إذابة التفاوت الطبقيّ الحادّ بين الأغنياء والفقراء. كما يعالج الكثير من المفاسد والشرور التي تنتج عن بطر الأغنياء، وشدّة فقر الفقراء، قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا ﴾ (التوبة: 103). وعلى هذا الأساس كان الحثّ على الإنفاق والتصدّق ممّا يحبه الإنسان ويرغب به، قال الله تعالى: ﴿لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ﴾ (آل عمران: 92). وفي الحديث عن الحسين بن علي والصادق عليه السلام "أَنَّهُمَا كَانَا يَتَصَدَّقَانِ بِالسُكَّرِ، وَيَقُولانِ إِنَّهُ أَحبُّ الأَشْيَاءِ إِلَيْنَا، وَقَدْ قَالَ الله تَعَالَى: ﴿لَنْ تَنَالُوا البِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّون﴾..."(3).
وفي الحديث عن أبي الطفيل قالَ: "اشـْتـَرى عـَلـِيٌّ عليه السلام ثَوْباً فَأَعْجَبَهُ فَتَصَدَّقَ بِهِ وَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وآله يَقُولُ: مَنْ آثَرَ عَلَى نَفْسِهِ آثَرَهُ الله يَوْمَ القِيَامَةِ بِالجَنَّةِ وَمَنْ أَحَبَ شَيْئاً فَجَعَلَهُ لِلَّهِ قَالَ الله تَعَالَى يَوْمَ القِيَامَةِ قَدْ كَانَ العِبَادُ يُكَافِئُونَ فِيمَا بَيْنَهُم بِالْمَعْرُوفِ وَأَنَا أُكَافِيكَ الْيَومَ بِالْجَنَّةِ" (4). ورُوي أن أبا طلحة وهو من الأصحاب قسّم حائطاً (بستاناً) له في أقاربه عند نزول هذه الآية وكان أحبّ أمواله إليه، فقال له رسول صلى الله عليه وآله: "بـخٍ بَـخٍ ذلِكَ مَالٌ رَابحٌ لَكَ" (5). وكنتيجةٍ طبيعيةٍ لهذا الفعل التطوّعي المخلص في التصدّق ومساعدة الآخرين، يكافئ الله المتصدّقين على عباده أعظم مكافأة، فيرفع غضبه عنهم، ويتلقى الصدقة سبحانه وتعالى بيده. وفي هذا أجزل الجزاء من المولى على عبده، وقد رويَ عن رسول الله صلى الله عليه وآله قوله: "إن الصدقة لتطفئ غضب الربّ" (6)، وروي عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام في حديث أنه قالَ: "إنَّ اللهَ لَمْ يَخْلُقْ شَيْئاً إلاّ وَلَهُ خَازِنٌ يَخْزُنُهُ إلاَّ الصَّدَقَةَ فَإِنَّ الرَّبَّ يَلِيهَا بِنَفْسِهِ؛ وَكَانَ أَبِي إِذَا تصدّق بشيء وضعه في يد السّائل ثم ارتده منه فقبَّله وشمَّه ثم ردَّه في يد السّائل"(7).
ما هي الصدقة الجارية؟
ذهب الكثير من الفقهاء إلى أن المراد من الصدقة الجارية التي ورد الحثّ عليها والتي لا ينقطع عمل ابن آدم منها بعد موته، هي الوقف، على أساس أن التأبيد في الاستفادة الذي من نتائجها وآثارها هو من مقتضيات الوقف ومقوّماته. ويمكن تعميم عنوان الصدقة الجارية إلى مطلق فعل الخير ونحوه من أعمال البرّ التي تستمرّ وتبقى ليستفاد منها بعد موت الإنسان، كعمارة الأبنية من المساجد والمدارس ونحوها من دُور العلم والعبادة، أو الكتب التي ألّفها، وسائر مساهماته الكلية والجزئية في ما يستفيد منه المجتمع والناس، وتعود بالنفع عليهم، ويمكن أن تشمل أيضاً السُّنن التي سنّها. وعليه فإن كل ما خلّفه الإنسان خالصاً لله تعالى، سينال حسناته في الآخرة، بل سيرى الإنسان أعماله محضرةً في ذلك اليوم الذي تزول فيه الحجب، وتكون كالفضل الدائم عليه بكل منافعها. وهذا ما يُفهم من الرواية المروية عن النبي صلى الله عليه وآله: "إذا مات المؤمن انقطع عمله إلا من ثلاثة: ولد صالح يدعو له، وعلم يُنتفع به بعد موته، وصدقة جارية" (8). وفي خبر هشام بن سالم: "ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته، وسنّة هدى سنّها فهي يُعمل بها بعد موته، وولد صالح يدعو له" (9).
وفي خبر آخر: "ستة يلحق المؤمن بعد وفاته: ولد يستغفر له، ومصحف يخلِّفه، وغرس يغرسه، وقليب (بئر) يحفره، وصدقة يجريها، وسنّة يؤخذ بها من بعده" (10). فالواضح من هذه الأخبار أن بعض أعمال الإنسان ينقطع وتذهب آثاره بموته، وبعضها الآخر يستمر بعد الموت. والاستمرار هنا ليس أمراً ذاتياً، بل يرتبط بما تركه الإنسان، ويمكن الاستفادة منه بشكل دائم. وقد أفتى الكثير من الفقهاء بأنّ بذل المال في بناء المسجد أو المشاركة في بنائه مع جماعة، من الصدقة الجارية لمن بذلها أو نواها عنه إذا حسنت النية، وكان هذا المال من كَسْبٍ طيّب.
الصدقة الجارية ومبدأ التكافل التكافل الاجتماعي جزء من عقيدة المسلم والتزامه الديني. وهو نظام أخلاقي يقوم على الحبّ والإيثار ويقظة الضمير ومراقبة الله عزَّ وجل. ولا يقتصر على حفظ حقوق الإنسان المادية، بل يشمل أيضاً الحقوق المعنوية. وغايته التوفيق بين مصلحة المجتمع ومصلحة الفرد. وقد عُني القرآن بالتكافل ليكون نظاماً لتربية الفرد في سلوكه الاجتماعي. وتشكّل الصدقة الجارية، وغيرها من أنواع البرّ والإحسان، المكوّنات الأساس في نظام التكافل الاجتماعي. قال الله عزَّ وجل: ﴿وأنفقوا في سَبِيل اللّهِ وَلا تُلقُوا بِأيّدِيكُم إلَى التّهلُكَةِ وَأَحسِنُوا إِن اللّه يُحِبُّ المُحسِنِين﴾ (البقرة: 195). وروي عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: "والله لا يكون المؤمن مؤمناً حتى يكون لأخيه مثل الجَسَد إذا ضرب عليه عرق واحد تداعت له سائر عروقه" (11).
* جزاء الصدقة وآثارها
للصدقة آثار دنيوية وأخروية. ويقصد بالآثار الدنيوية ما يتحقّق وينعكس خيراً وبركةً على المتصدِّق في الحياة الدنيا، كدفع البلاء عنه، ودفع ميتة السوء، والزيادة في الرزق ودفع الفقر. فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "الصدقة تدفع البلاء، وهي دواء، وتدفع القضاء وقد أُبرم إبراماً، ولا يذهب بالأدواء إلاّ الدعاء والصدقة" (12). وتصرّح طائفة من الروايات بأن الصدقة تُطوّل العمر وتدفع الفقر وتزيد في الرزق، فقد روي عن الإمام الباقر عليه السلام: "البرّ والصدقة ينفيان الفقر، ويزيدان في العمر، ويدفعان عن صاحبهما سبعين ميتة سوء" (13)، وعن الإمام علي عليه السلام: "استنزلوا الرزق بالصدقة" (14). ويقصد بالآثار الأخروية للصدقة، تلك التي وَعَدَ الله بإيفائها للمتصدّقين في الآخرة، يوم لا ينفع الناس إلا أعمالهم الصالحة، كالتظلّل بظلّ الصدقة من النار، كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وآله: "أرض القيامة نار، ما خلا ظلّ المؤمن فإنّ صدقته تُظلُّه"(15)، وأنها تطفئ حرّ القبور، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حرّ القبور..." (16).
* صدقتا السِّرّ والعلانية
لقد حثّت الأخبار على صدقة السرّ والليل، ولكن لم يرد النهي الصريح عن صدقة العَلَن والنهار، بل ورد الحثُّ عليها أيضاً. ولعلّ ذلك فيه إشارة إلى كون الصدقة ذات أبعاد اجتماعية وتربوية. قال الإمام الصادق عليه السلام: "إنّ صدقة الليل تطفئ غضب الربّ، وتمحو الذنب العظيم، وتهوّن الحساب، وصدقة النهار تثمر المال، وتزيد في العمر" (17)، وقال عليه السلام: "إنّ صدقة النهار تميث (تذيب) الخطيئة كما يميث الماء الملح، وإنّ صدقة الليل تطفئ غضب الربّ جلّ جلاله" (18)، وقال عليه السلام أيضاً: "لا تتصدّق على أعين الناس ليزكُّوك؛ فإنّك إن فعلت ذلك فقد استوفيت أجرك، ولكن إذا أعطيت بيمينك فلا تُطلع عليها شمالك؛ فإنّ الذي تتصدّق له سرّاً يجزيك علانية..." (19).
(1) وسائل الشيعة (الإسلامية)، الحر العاملي، ج 6، ص 258، ح 17.
(2) الكافي، الشيخ الكليني، ج 8، ص 79، ح 33.
(3) التفسير الصافي، الفيض الكاشاني، ج 1، ص 355.
(4) م. ن.
(5) تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج 2، ص 342.
(6) ميزان الحكمة، الشيخ محمد الريشهري، ج 2، ص 1594.
(7) وسائل الشيعة (آل البيت)، الحر العاملي، ج 9، ص 407، ح 2.
(8) مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 12، ص 230.
(9) وسائل الشيعة (آل البيت)، م. س، ج 19، ص 171، ح14.
(10) وسائل الشيعة (الإسلامية)، م. س، ج 13، ص 292، ح 5.
(11) مستدرك الوسائل، م. س، ج 9، ص 42، ح10.
(12) بحار الأنوار، م. س، ج 96، ص 137.
(13) ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص 141.
(14) نهج البلاغة، الشريف الرضي، ج 4، ص 34.
(15) الكافي، م. س، ج 4، ص 3.
(16) كنز العمال، المتقي الهندي، ج 6، ص 348.
(17) تهذيب الأحكام، الشيخ الطوسي، ج 4، ص 105، ح 34.
(18) بحار الأنوار، م. س، ج 93، ص 176.
(19) م. ن، ج 75، ص 284.
نشر في: المجتمع